عاشت قبائل غامد وزهران وبني عمر ومن جاورها من القبائل في هذا الحيز من الجزيرة العربية ، منذ فترة تزيد كثيراً عن ألفي سنة من التاريخ ، لم تمنعهم - خلالها - ظروفهم الزراعية التي انقطعوا لها - أو كادوا - من المشاركة في صياغة التاريخ الاجتماعي والأدبي للجزيرة العربية مع بقية إخوانهم من القبائل العربية الأخرى في طول الجزيرة وعرضها . لقد انشغلوا بتوسيع الرقعة الزراعية المتاحة لهم ، عن طريق بناء المدرجات التي وصفها بطليموس بالجبال المدرجة ، كما انشغلوا أيضا بتحسين محاصيلهم الزراعية وتطوير أساليبها وأدواتها المختلفة ، والى جانب ذلك فقد حرصوا على ترتيب علاقاتهم مع القبائل الأخرى فحالفوا قبيلة قريش وهوازن وفهم وعدوان وثقيف وخثعم ، بل وارتبطوا بالمصاهرة مع بعضها مثل قريش وهوازن وعدوان وثقيف . وكانت لهم في الجاهلية ريادة مشهودة لأسواق العرب وكان لسوقهم العتيد - حباشة - مكانته المعتبرة لدى عرب ذلك الزمان . أما مشاركتهم الأدبية فلم تكن أقل من مشاركات غيرهم من قبائل العرب، غير أن غالب أشعارهم لازال مدفوناً في بطون المخطوطات التي طوح الزمان بها شرقاً وغرباً ، ومع ذلك فقد وصلت إلينا مجموعة لا يستهان بها من أشعارهم ، ووصلت إلينا أسماء لمعت نجومها في العصر الجاهلي مثل عدي بن وداع الزهراني وعبد الله بن سلمة الغامدي الذي وقف على الأطلال جرياً على تقاليد عصره وقرر في قصيدة من غرر أشعاره ظاهرة جغرافية هامة تضمنها مطلع القصيدة القائل :
لمن الديار تلوح بالغمر& & & درست لمرّ الريح والقطر
وهكذا كان لهم دورهم الفاعل المتفاعل داخل جزيرة العرب ، خلال العصر الجاهلي ، غير أن دورهم ذلك قد زاد تميزاً بعد دخولهم في الإسلام ، الذي بدأت صلتهم به في وقت مبكر جداً ، عن طريق الأفراد أولا ثم عن طريق الوفود التي شدت رحالها إلى مكة - قبل الهجرة - والى المدينة -بعد الهجرة - (من ابرز الأسماء في هذا الصدد : أبو هريرة رضي الله عنه ، وأبو ظبيان الأعرج ) بينما ظلت جماعات منهم تقيم في السراة ونجودها وفي تهامة ونجودها لتمارس دورها في بناء اقتصاد الدولة الإسلامية الفتية ، بل ولتدافع أيضا عن حياض الدين حيث شاركوا في صد جيش الأسود العنسي الذي خارت قواه على أطراف هضبة المخواة فتتبعوا فلوله حتى أطفأ الله ناره . وفي زمن الخليفة عمر بن الخطاب ، خرجت مجموعات كبيرة منهم بدعوة من الخليفة الراشد للمشاركة في الفتوحات الإسلامية ، فشهد رجالهم فتوحات العراقين وخراسان وبلاد السند والشام وبلاد الروم ومصر وشمال إفريقيا ، مرددين شعارهم التقليدي الذي خلدته مصادر التاريخ الإسلامي ( يا مبرور .. يا مبرور ) كما خلدت المصادر نفسها أسماء لأبرز رجا لاتهم في تلك الفتوحات مثل الحارث بن وهب وعبد الله بن عمرو بن الطفيل وأبى ظبيان الأعرج (المتقدم ذكره) وجندب بن كعب وسفيان بن عوف . وعندما انتقل مركز الخلافة الإسلامية إلى دمشق ثم إلى بغداد ، أصبحت المنطقة بعيدة عن الضوء فانكفأت على من بقي فيها ، غير أنها قد حافظت على أهميتها الاقتصادية كظهير غذائي لمكة المكرمة ، كما بقي أبناؤها على ولائهم للدولة الإسلامية من خلال مشاركتهم المتقطعة في فتوحات بني أمية ثم في فتوحات بني العباس . أما مشاركتهم العلمية والأدبية ، فرغم وجود نماذج كثيرة منها إلا أن القدح المعلى فيها كان لمبدعيهم الذين استوعبتهم أقاليم إسلامية خارج حدود موطنهم الأصلي (مثل الخليل بن احمد وابن دريد وكعب بن معدان وأبى الدجاج وأبي مخنف الغامدي الذي حفظ لنفسه - قبل هؤلاء- أولوية تدوين التاريخ الإسلامي ) وخلال فترة الضعف التي لحقت بالدولة ألعباسية وتتابع قيام الدويلات الإسلامية كانت المنطقة تابعة لمكة المكرمة ، فعرفت تبعاً لذلك شيئاً من النفوذ الأيوبي وشارك فريق من رجالاتها في حروب المسلمين ضد الغزو الصليبي ضمن قوة بشرية تشكلت منهم ومن جيرانهم في عسير كما تشير إلى ذلك قصيدة قديمة يتداولها بعض المعمرين .
وعند قيام الدولة العثمانية تأخر دخول المنطقة إلى حظيرة بني عثمان بعض الوقت ، فجيوش الدولة العثمانية المتجهة صوب اليمن كانت تسلك الطريق البحري حيناً والطرق البرية البعيدة عن المنطقة أحيانا أخرى ، إضافة إلى اعتماد الدولة العثمانية على أشراف مكة في إدارة شئون مكة المكرمة وامتداداتها الجنوبية ، وهي الإدارة التي رأت في المنطقة مستودعاً للغذاء وللرجال الذين تدفع بهم للقتال في الفتن المحلية دون أن تكلف نفسها بأي إصلاحات تجاه المنطقة مما ألقي بالمنطقة في أتون عزلة اجتماعية مهولة تميزت بتفشي الجهل والمرض والمجاعات . وبعد أن بسط العثمانيون نفوذهم على المنطقة جعلوها قضاء يتبع عسير وجعلوا ( رغدان ) قاعدة لذلك القضاء ، ثم عدلوا عن ذلك وجعلوها تابعة لشريف مكة ، وبين هذا وذاك لم يقدم العثمانيون شيئاً يذكر سوى بعض معابر الدواب التي تربط تهامة بالسراة ، وبعض معسكرات للجند ( المطارح ) ومخبز لتامين حاجة الجند من الخبز أقاموه داخل سوق الباحة . أما الأمن فقد ترك في مهب الريح ، وأما التعليم فقد أهمل أمره نماماً لولا مجهودات فردية محضة أفرزت رغم بساطتها بعض النماذج المتميزة مثل الشيخ موسى الزهراني الذي كسب شهرة واسعة في مكة ، والشيخ جلال الغامدي الذي ترك مخطوطة جمع فيها أخبار المنطقة في مختلف العصور، ومثلهم أيضاً الفقيه أحمد الزيداني . ومهما يكن الأمر فقد ظلت المنطقة نهباً للفوضى طيلة العهد العثماني ، فكثرت القلاقل وتتابعت ردود الفعل القاسية من العثمانيين ( حريق الباحة، التنكيل ببلجرشي ، حريق بني سار ، حريق الروضة ، حريق شدا ، مذبحة مساريب الصباح في رغدان ، حريق الموسى .. الخ ) . وعندما انتشرت الدعوة السلفية في نجد ، شعر الناس بنقاء ما تدعو إليه ، ووجدوا في سيرة رجالها ما يلبي حاجتهم إلى الأمن فسارعوا إلى قبولها وتناوبوا قراءة الرسالة التي وجهها لهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مساجدهم ، وسرعان ما أصبحوا جزءاً من الجيش الذي شكلته الدولة السعودية الأولى لمواجهة غزو محمد علي باشا ، وكان للشيخ محمد بن عقالى ، والشيخ علي بن هطامل ، والشيخ بخروش بن علاس ، والشيخ ابن شهوان ، دوراً كبيراً في قيادة قبائلهم في تلك المواجهات ، مما جعل المصادر التركية تنعتهم بأشقياء غامد وزهران ، أوأتباع الوهابيين في غامد وزهران . ورغم عودة الأتراك للسيطرة ثانية ، إلا أن بقاءهم كان مشوباً بعدم الاستقرار حتى رحلوا أخيرا بعد معارك متقطعة في وادي قريش ، وشبرقة ، ورهوة البر ، وقوب ، ومهران والبريدة ، لتدخل المنطقة بعد ذلك مرحلة جديدة تأرجحت خلالها بين نفوذ أشراف مكة وبين نفوذ الادارسة في جيزان وآل عائض في عسير . غير أن قيام المملكة العربية السعودية تحت راية الإسلام الظافرة قد وضع حداً لتلك الحالة الواهنة ، إذ تمكن الموحد العظيم المغفور له - بإذن الله - الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، من توحيد شتات الأمة ، ووضع شعوب الجزيرة العربية في مسار واحد على أسس حضارية أعطت ثمارها يانعة في مجال الأمن والصحة والعمران والتعليم ، وأصبحت الباحة مثل رصيفاتها من مناطق المملكة عروساً تزين ظهر السراة ، واصبح شبابها مؤهلاً بالعلم في مختلف التخصصات ، واصبح الأمن الوارف يرفرف على جبالها وأوديتها فلله الحمد أولاً وأخيراً .